كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأمال الياءَ مِنْ {يس} الأخَوان وأبو بكر لأنها اسمٌ من الأسماءِ كما تقدَّم تقريرُه أولَ البقرةِ. قال الفارسيُّ: وإذا أمالوا يا وهي حرفُ نداءٍ فلأَنْ يُميلوا يا مِنْ يس أجدرُ.
وقرأ عيسى وابنُ أبي إسحاق بفتح النون: إمَّا على البناءِ على الفتح تخفيفًا كأَيْن وكيفَ، وإمَّا على أنَّه مفعولٌ ب اتْلُ، وإمَّا على أنَّه مجرورٌ بحرفِ القسمِ. وهو على الوجهَيْن غيرُ منصرفٍ للعلَميَّةِ والتأنيث. ويجوز أَنْ يكونَ منصوبًا على إسقاطِ حرفِ القسمِ، كقولِه:
فذاك أمانةَ اللَّهِ الثَّريدُ

وقرأ الكلبي بضم النون. فقيل: على أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هذه يس، ومُنِعَتْ من الصرفِ لِما تقدَّم. وقيل: بل هي حركةُ بناءٍ ك حيث فيجوز أَنْ يكونَ خبرًا كما تقدَّم، وأَنْ يكونَ مُقْسَمًا بها نحو: عَهْدُ اللَّهِ لأفعلَنَّ. وقيل: لأنها منادى فبُنِيَتْ على الضم؛ ولهذا فَسَّرها الكلبيُّ القارئُ لها ب يا إنسانُ قال: وهي لغةُ طيِّئ. قال الزمخشري: إنْ صَحَّ معناه فوجهُه أن يكونَ أصلُه يا أُنَيْسِيْنُ فَكَثُر النداءُ به على ألسنتِهم، حتى اقتصروا على شَطْرِه، كما قالوا في القسم: مُ الله في ايْمُنُ اللَّهِ. قال الشيخ: والذي نُقِل عن العرب في تصغير إنْسان: أُنَيْسِيان بياءٍ بعدها ألفٌ فدَلَّ على أنَّ أصلَه إنْسِيان؛ لأنَّ التصغيرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولها، ولا نعلمُ أنَّهم قالوا في تصغيره: أُنَيْسِين. وعلى تقدير أنه يُصَغَّر كذلك فلا يجوزُ ذلك، إلاَّ أَنْ يُبنى على الضمِّ؛ لأنه منادى مُقْبَلٌ عليه ومع ذلك فلا يجوزُ لأنه تحقيرٌ، ويمتنعُ ذلك في حَقِّ النبوة. قلت: أمَّا الاعتراضُ الأخيرُ فصحيحٌ نصُّوا على أنَّ التصغيرَ لا يَدْخُلُ في الأسماءِ المعظمةِ شَرْعًا. ولذلك يُحْكى أنَّ ابنَ قتيبةَ لمَّا قال في المُهَيْمن: إنَّه مصغرٌ مِنْ مُؤْمِن، والأصل مُؤَيْمِن، فأبْدِلَتِ الهمزةُ هاءً. قيل له: هذا يقرُبُ من الكفرِ فليتَّقِ اللَّهَ قائلُه. وقد تقدَّمَتْ هذه الحكايةُ في المائدةِ مطوَّلةً وما قيل فيها. وقد تقدَّم للزمخشريِّ في طه ما يَقْرُبُ من هذا البحثِ، وتقدَّم للشيخِ معه كلامٌ.
واقرأ ابنُ أبي إسحاق أيضًا وأبو السَّمَّال {يَسنِ} بكسرِ النونِ، وذلك على أصلِ التقاءِ الساكنين. ولا يجوزُ أَنْ تكونَ حركةَ إعرابٍ.
{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)}.
قوله: {والقرآن} إمَّا قسمٌ مستأنفٌ، إنْ لم يُجْعَلْ ما تقدَّم قَسَمًا، وإمَّا عَطْفٌ على ما قبلَه إنْ كانَ مُقْسَمًا به. وقد تقدَّم كلامٌ عن الخليل في ذلك أولَ آياتِ البقرةِ فعليكَ باعتبارِه هنا، فإنَّه حَسَنٌ جدًا. وتقدَّم الكلامُ على {الحكيم}.
{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)}.
قوله: {إِنَّكَ} جوابُ القسمِ و{على صِراط} يجوزُ أَنْ يكونَ متعلقًا بالمرسَلين. تقول: أَرْسَلْتُ عليه كذا. قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا} [الفيل: 3]، وأنْ يكونَ متعلِّقًا بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الضمير المستكنِّ في {لَمِنَ المُرْسَلين} لوقوعِه خبرًا، وأنْ يكونَ حالًا من المرسلين، وأَنْ يكونَ خبرًا ثانيًا ل {إنَّك}.
{تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)}.
قوله: {تَنزِيلَ} قرأ نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمرو وأبو بكر بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هو تنزيل. ويجوزُ أَنْ يكونَ خبرًا لمبتدأ إذا جَعَلْتَ يس اسمًا للسورة أي: هذه السورة المسمَّاة ب يس تنزيلُ، أو هذه الأحرفُ المقطعةُ تنزيلُ. والجملةُ القسميةُ على هذا اعتراضٌ. والباقون بالنصبِ على المصدرِ، أو على المدح. وهو في المعنى كالرفع على خبر ابتداءٍ مضمر. وتنزيل مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه. وقيل: هو بمعنى مُنْزَل. وقرأ أبو حيوة واليزيديُّ وأبو جعفر وشيبة {تنزيلِ} بالجرِّ على النعتِ للقرآنِ أو البدلِ منه.
{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)}.
قوله: {لِتُنذِرَ} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بِ تنزيل أو بمعنى المرسلين، يعني بإضمارِ فِعْل يَدُلُّ عليه هذا اللفظُ أي: أَرْسَلْناك لتنذِرَ.
قوله: {مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ} يجوزُ أَنْ تكونَ ما هذه بمعنى الذي، وأَنْ تكونَ نكرةً موصوفةً. والعائدُ على الوجهين مقدَّرٌ أي: ما أُنْذِرَه آباؤهم فتكونُ ما وصلتُها أو وَصْفُها في محلِّ نصب مفعولًا ثانيًا لقولِه: {لتُنْذِرَ} كقولِه: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا} [النبأ: 40] والتقدير: لتنذرَ قومًا الذي أُنْذِرَه آباؤهم مِن العذابِ، أو لتنذرَ قومًا عذابًا أُنْذِرَه آباؤهم. ويجوز أَنْ تكونَ مصدريةً أي: إنذارَ آبائهم أي: مثلَه. ويجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً، وتكونُ الجملةُ المنفيةُ صفةً ل {قومًا} أي: قومًا غيرَ مُنْذَرٍ آباؤهم. ويجوزُ أَنْ تكونَ زائدةً أي: قومًا أُنْذِر آباؤهم، والجملةُ المثبتةُ أيضًا صفةٌ ل {قومًا} قاله أبو البقاء وهو مُنافٍ للوجهِ الذي قبلَه.
{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)}.
قوله: {فَهِىَ إِلَى الأذقان} في هذا الضميرِ وجهان، أحدهما: وهو المشهورُ- أنه عائدٌ على الأَغْلال، لأنها هي المُحَدَّثُ عنها، ومعنى هذا الترتيبِ بالفاءِ: أن الغِلَّ لغِلَظِه وعَرْضِه يَصِلُ إلى الذَّقَنِ لأنه يَلْبَسُ العُنُقَ جميعَه. الثاني: أن الضميرَ يعودُ على الأَيدي؛ لأنَّ الغِلَّ لا يكونُ إلاَّ في العُنُقِ واليدين، ولذلك سُمِّي جامِعَةً. ودَلَّ على الأيدي هذه الملازَمَةُ المفهومةُ من هذه الآلةِ أعني الغِلَّ. وإليه ذهب الطبري. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال: جعل الإِقْماحَ نتيجةَ قولِه: {فَهِىَ إِلَى الأذقان} ولو كان للأيدي لم يكن معنى التَّسَبُّبِ في الإِقماحِ ظاهرًا. على أنَّ هذا الإِضمارَ فيه ضَرْبٌ من التعسُّفِ وتَرْكِ الظاهر.
وللناس في هذا الكلامِ قولان، أحدهما: أنَّ جَعْلَ الأغلالِ حقيقةٌ. والثاني: أنه استعارةٌ. وعلى كلٍّ من القولين جماعةٌ من الصحابةِ والتابعين. وقال الزمخشري: مَثَّل تصميمَهم على الكفر، وأنه لا سبيلَ إلى ارْعوائِهم بأنْ جَعَلَهم كالمَغْلُوْلِين المُقْمَحِيْن في أنهم لا يَلْتَفِتون إلى الحق ولا يَعْطِفُون أعناقَهم نحوَه، ولا يُطَأْطِئُون رءوسهم له وكالحاصلين بين سَدَّيْن لا يُبْصِرون ما قُدَّامَهم وما خَلْفَهم في أَنْ لا تأمُّلَ لهم ولا تَبَصُّرَ، وأنهم مُتَعامُوْن عن آياتِ الله. وقال غيره: هذه استعارةٌ لمَنْعِ اللَّهِ إياهم مِن الإِيمانِ وحَوْلِه بينَهم وبينه. قال ابن عطية: وهذا أَرْجَحُ الأقوالِ؛ لأنه تعالى لَمَّا ذَكَرَ أنهم لا يُؤْمِنون لِما سَبَقَ لهم في الأَزَلِ عَقَّبَ ذلك بأنْ جَعَلَ لهم من المَنْعِ وإحاطةِ الشقاوةِ ما حالُهم معه حالُ المَغْلُوْلين انتهى. وتقدَّم تفسيرُ الأذقان.
قوله: {فهم مُقْمَحُوْن} هذه الفاءُ لأحسنِ ترتيبٍ؛ لأنه لَمَّا وَصَلَتِ الأغلالُ إلى الأَذْقان لِعَرْضِها لَزِم عن ذلك ارتفاعُ روؤسِهم إلى فوقُ، أو لَمَّا جُمِعَتْ الأيدي إلى الأَذْقان وصارت تحتَها لَزِم مِنْ ذلك رَفْعُها إلى فوقُ، فترتفعُ رءوسهم. والإِقْماح: رَفْعُ الرأسِ إلى فوقُ كالإِقناع، وهو مِنْ قَمَحَ البعيرُ رَأْسَه إذا رفَعها بعد الشُّرْبِ: إمَّا لبرودةِ الماءِ وإمَّا لكراهةِ طَعْمِه قُموحًا وقِماحًا بكسرِ القافِ وضمِّها. وأَقْمَحْتُه أنا إقماحًا والجمع قِماح وأنشد:
ونحن على جوانبِها قُعودٌ ** نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإِبِلِ القِماحِ

يصفُ نفسَه وجماعةً كانوا في سفينة فأصابهم المَيْدُ. قالَ الزجاج: قيل للكانونَيْنِ شَهْرا قُمِاح؛ لأنَّ الإِبِلَ إذا وَرَدَتِ الماءَ رَفَعَتْ رءوسها لشدَّةِ البردِ. وأنشد أبو زيد للهذلي:
فَتَىً ما ابنُ الأَغَرِّ إذا شَتَوْنا ** وحُبَّ الزادُ في شَهْرَيْ قُماحِ

كذا رَواه بضمِّ القافِ، وابن السكيت بكسرِها. وهما لغتان في المصدرِ كما تقدَّمَ. وقال الليث: القُموح: رَفْعُ البعيرِ رَأْسَه إذا شَرِبَ الماءَ الكريهَ ثم يعودُ. وقال أبو عبيدة: إذا رَفَعَ رأسَه عن الحوض، ولم يشرَبْ والمشهورُ أنه رَفْعُ الرأسِ إلى السماء كما تقدَّمَ تحريرُه. وقال الحسن: القامِحُ: الطامِحُ ببصرِه إلى مَوْضِعِ قَدَمِه وهذا يَنْبُو عنه اللفظُ والمعنى. وزاد بعضُهم مَع رَفْعِ الرأس غَضَّ البصرِ مُسْتَدِلًا بالبيتِ المتقدم:
نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإِبِل القِماحِ

وزاد مجاهدٌ مع ذلك وَضْعَ اليدِ على الفم. وسأل الناسُ أميرَ المؤمنين عليًا كرَّم اللَّهُ وجهه عن هذه الآيةِ فجعل يديه تحت لِحْيَيْه ورَفَعَ رأسَه ولعَمْري إنَّ هذه الكيفيةَ تُرَجِّح قولَ الطبريِّ في عَوْدِ فهي على الأيدي.
{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)}.
قوله: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} تقدَّم خلافُ القُرَّاء في فتح السين وضمِّها والفرقُ بينهما، مستوفى في آخر الكهف.
قوله: {فأَغْشَيْناهم} العامَّةُ على الغين المعجمة أي: غَطَّيْنا أبصارَهم فهو على حَذْفِ مضافٍ. وابن عباس وعمر بن عبد العزيز والحسن وابن يعمر وأبو رجاء في آخرين بالعين المهملة، وهو ضَعْفُ البصَرِ. يُقال: عَشِي بَصَرُه وأَعْشَيْتُه أنا، وقوله تعالى هذا يحتمل الحقيقةَ والاستعارةَ كما تقدَّم.
{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)}.
قوله: {وَسَوَاءُ عَلَيْهِمْ} تقدَّم تحريرُه أولَ البقرةِ.
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)}.
قوله: {وَنَكْتُبُ} العامَّةُ على بنائِه للفاعل، فيكونُ {ما قَدَّموا} مفعولًا به، و{آثارهم} عطفٌ عليه. وزر ومسروق مبنيًا للمفعول، و{آثارُهم} بالرفعِ، عطف على {ما قَدَّموا} لقيامِه مَقامَ الفاعل.
قوله: {وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ} العامَّةُ على نصبِه على الاشتغالِ. وأبو السَّمَّال قرأه مرفوعًا بالابتداءِ. والأرجحُ قراءةُ العامَّةِ لعطفِ جملةِ الاشتغالِ على جملةٍ فعلية. وقد تقدَّم الكلامُ على نحو {واضرب لَهُمْ مَّثَلًا} في البقرة، والنحل.
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)}.
و: {إِذْ جَاءَهَا} بدلُ اشتمالٍ تقدَّم نظيرُه. و{إذْ أَرْسَلْنا} بدلٌ من إذ الأولى.
{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)}.
قوله: {فَعَزَّزْنَا} قرأ أبو بكر بتخفيفِ الزاي بمعنى غَلَّبْنا، ومنه قولُه: {وَعَزَّنِي فِي الخطاب} [ص: 23]. ومنه قولُهم: مَنْ عَزَّ بَزَّ أي صار له بَزٌّ. والباقون بالتشديد بمعنى قَوَّيْنا. يقال: عزَّز المطرُ الأرضَ أي: قَوَّاها ولبَّدها. ويُقال لتلك الأرضِ: العَزازُ، وكذا كلُّ أرضٍ صُلْبةٍ. وتَعَزَّزَ لحمُ الناقةِ أي: صَلُبَ وقَوِيَ. وعلى كلتا القراءتَيْن المفعولُ محذوفٌ أي: فَقَوَّيناهما بثالثٍ أو فَغَلَّبْناهما بثالث.
وقرأ عبد الله {بالثالث} بألف ولام.
قوله: {إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ} جَرَّد خبرَ إنَّ هذه من لام التوكيد، وأَدْخَلها في خبر الثانيةِ، لأنَّهم في الأولى استعملوا مجرَّدَ الإِنكارِ فقابَلَتْهم الرسُلُ بتوكيدٍ واحدٍ وهو الإِتيانُ ب إنَّ، وفي الثانيةِ بالمبالغة في الإِنكار فقابَلَتْهم بزيادة التوكيدِ فأتَوْا ب إنَّ وباللام.
قال أهل البيان: الأخبارُ ثلاثةُ أقسامٍ: ابتدائيٌّ وطلبيٌّ وإنكاريٌّ، فالأولُ يُقال لمن لم يتردَّدْ في نسبةِ أحدِ الطرفين إلى الآخر نحو: زيد عارفٌ، والثاني لِمَنْ هو متردِّدٌ في ذلك، طالِبٌ له منكِرٌ له بعضَ إنكارٍ، فيقال له: إنَّ زيدًا عارِفٌ، والثالثُ لِمَنْ يبالِغُ في إنكارِه، فيُقال له: إنَّ زيدًا لعارِفٌ. ومِنْ أحسن ما يُحْكى أن رجلًا جاء إلى أبي العباس الكِنْدِيِّ فقال: إني أجد في كلامِ العربِ حَشْوًا قال: وما ذاك؟ قال: يقولون: زيدٌ قائمٌ، وإنَّ زيدًا قائمٌ، وإنَّ زيدًا لَقائمٌ. فقال: كلا بل المعاني مختلفةٌ، فزيد قائمٌ إخبارٌ بقيامِه، وإنَّ زيدًا قائمٌ جوابٌ لسؤالِ سائلٍ، وإنَّ زيدًا لَقائمٌ جوابٌ عن إنكارِ مُنْكِرٍ. قلت: هذا هو الكنديٌّ الذي سُئل أن يعارِضَ القرآنَ ففتح المصحفَ فرأى سورةَ المائدةِ فكعَّ عن ذلك. والحكايةُ ذكرتُها أولَ المائدة.
وقال الشيخ: وجاء أولًا {مُرْسَلون} بغير لام؛ لأنه ابتداءُ إخبارٍ فلا يَحْتاجُ إلى توكيدٍ، وبعد المحاورة {لَمُرْسَلون} بلامِ التوكيد؛ لأنه جوابٌ عن إنكار وهذا قصورٌ عن فَهْم ما قاله أهلُ البيان، فإنه جَعَلَ المقام الثاني وهو الطلبيُّ مكانَ المقامِ الأولِ، وهو الابتدائيُّ.
{قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)}.
قوله: {طَائِرُكُم} العامَّةُ على طائر اسمَ فاعل أي: ما طارَ لكم من الخيرِ والشرِّ فعبَّر عن الحَظِّ والنصيب. وقرأ الحسن- فيما رَوَى عنه الزمخشري- {اطَّيُّرُكم} مصدرُ اطَّيَّر الذي أصلُه تطَيَّر فلمَّا أُرِيْدَ إدغامُه أُبْدِلَتِ التاءُ طاءً، وسُكِّنَتْ واجْتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ فصار اطَّيَّرَ فيكون مصدره اطَّيُّرًَا. ولَمَّا ذكر الشيخ هذا لم يَرُدَّ عليه، وكان هو في بعضِ ما رَدَّ به على ابن مالك في شرح التسهيل في باب المصادر قال: إن مصدرَ تَطَيَّر وتدارَأ إذا أدغما وصارا اطَّيَّرَ وادَّارأ لا يجيءُ مصدرُهما عليهما بل على أصلهما فيقال: اطَّيَّر تَطَيُّرًا، وادَّارأ تدارُؤًا، ولكنَّ هذه القراءةَ تَرُدُّه إنْ صَحَّتْ وهو بعيدٌ. وقد رَوَى غيرُه عنه {طَيْرُكم} بياء ساكنة ويَغْلِبُ على الظنِّ أنَّها هذه، وإنما تَصَحَّفَتْ على الرائي فحَسِبها مصدرًا، وظنَّ أنَّ ألف {قالوا} همزةُ وَصْلٍ.
قوله: {أإنْ ذُكِّرْتُمْ} قرأ السبعةُ بهمزةِ استفهام بعدها إنْ الشرطيةُ، وهم على ما عَرَفْتَ مِنْ أصولِهم: من التسهيلِ والتحقيق وإدخالِ ألفٍ بين الهمزتين وعدمِه في سورةِ البقرة. واختلف سيبويهِ ويونسُ إذ اجتمع استفهامٌ وشرطٌ أيُّهما يُجابُ؟ فذهبَ سيبويهِ إلى إجابةِ الاستفهام، ويونسُ إلى إجابة الشرطِ، فالتقديرُ عند سيبويهِ: أإن ذُكِّرْتُمْ تتطيَّرون وعند يونسَ تطيَّرُوا مجزومًا، فالجوابُ للشرطِ على القولين محذوفٌ. وقد تقدَّم هذا في سورة الأنبياء.
وقرأ أبو جعفر وطلحة وزرٌّ بهمزتين مفتوحتين إلاَّ أن زرًَّا لم يُسَهِّلَ الثانيةَ كقوله:
أإنْ كُنْتَ داودَ بنَ أحوى مُرَجَّلًا ** فلستَ براعٍ لابنِ عمِّك مَحْرَما

ورُوي عن أبي عمروٍ وزرٍّ أيضًا كذلك، إلاَّ أنهما فَصَلا بألفٍ بين الهمزتين. وقرأ الماجشون بهمزةٍ واحدةٍ مفتوحة. وتخريجُ هذه القراءاتِ الثلاثِ على حَذْفِ لامِ العلةِ أي: ألَئِنْ ذُكِّرْتم تطيَّرْتُمْ، ف تَطَيَّرْتُمْ هو المعلولُ، وأنْ ذُكِّرتم علتُه، والاستفهامُ منسَحِبٌ عليهما في قراءةِ الاستفهامِ وفي غيرِها يكونُ إخبارًا بذلك.
وقرأ الحسن بهمزةٍ واحدةٍ مكسورة وهي شرطٌ من غير استفهامٍ، وجوابُه محذوفٌ أيضًا.
وقرأ الأعمشُ والهمدانيُّ {أَيْنَ} بصيغةِ الظرفِ. وهي أين الشرطيةُ، وجوابُها محذوفٌ عند جمهور البصريين أي: أين ذُكرتم فطائرُكم معكم، أو صَحِبَكم طائرُكم، لدلالةِ ما تقدَّم مِنْ قولِه {طائرُكُمْ معكم} ومَنْ يُجَوِّزُ تقديمَ الجوابِ لا يَحْتاج إلى حَذْفٍ.
وقرأ الحسن وأبو جعفر وأبو رجاء والأصمعيُّ عن نافع {ذُكِرْتُمْ} بتخفيفِ الكاف.
{اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)}.
قوله: {مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} بدلٌ من {المرسلين} بإعادة العامل، إلاَّ أنَّ الشيخَ قال: النحاةُ لا يقولون ذلك إلاَّ إذا كان العاملُ حرف جر، وإلاَّ فلا يُسَمُّونه بدلًا بل تابعًا وكأنه يريد التوكيدَ اللفظيَّ بالنسبة إلى العامل.
{وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)}.
قوله: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ} أصلُ الكلامِ: ومالكم لا تعبدون ولكنه صَرَفَ الكلامَ عنهم، ليكون الكلامُ أسرعَ قبولًا ولذلك جاء قولُه {وإليه تُرْجَعون} دون وإليه أرجعُ.
{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23)}.
قوله: {أَأَتَّخِذُ} مبنيٌّ على كلامِه الأول، وهذه الطريقةُ أحسنُ من ادِّعاءِ الالتفاتِ.
قوله: {مِنْ دونِه} يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بأتخذُ على أنها متعديةٌ لواحدٍ وهو {آلهةً} ويجوزُ أَنْ يكونَ متعلقًا بمحذوف على أنه حالٌ مِنْ {آلهةً} وأنْ يكونَ مفعولًا ثانيًا قُدِّمَ على أنها المتعديةُ لاثنين.
قوله: {إنْ يُرِدْنِيْ} شَرْطٌ، جوابُه {لاَّ تُغْنِ عَنِّي} والجملةُ الشرطيةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ل آلهةً. وفتح طلحة السلماني- وقيل: طلحةُ ابنُ مصرِّفٍ- ياءَ المتكلم. قال الزمخشري: وقُرِئ: {إِن يُرِدْنِي الرحمن بِضُرٍّ} بمعنى: إنْ يُوْردني ضَرَّاء، أي يجعله مَوْرِدًا للضُرِّ. قال الشيخُ: وهذا- واللَّهُ أعلم- رأى في كتب القراءات بفتح الياءِ فتوهمَّ أنها ياءُ المضارعة فجعل الفعلَ متعدِّيًا بالياء المعدِّية كالهمزةِ، فلذلك أَدْخَلَ همزةَ التعديةِ فنصَبَ به اثنين، والذي في كتبِ القراءات الشواذ أنها ياءُ الإِضافةِ المحذوفةُ خَطًَّا ونطقًا لالتقاء الساكنين. قلت: وهذا رجلٌ ثقةٌ قد نَقَل هذه القراءةَ فتُقْبل منه.